تنتفح الصدور بروح الربيع وتتسع العيون باللون الأخضر، وتتقلب بين مكان ومكان.
أجلس على شباك الحافلة وأحاول أن أنظر لفلسطين بعين موضوعية ولكن ودون أن أشعر أجد نفسي للحظة مشتعلة بالحب أكثر عن ذي قبل، منحازة بحب هذه البلاد وهذا التراب عن دون كل الوطن العربي وبقاع الأرض..
تتابع نظراتي للهضاب والشوارع والبنايات والأشجار وأحاول قدر استطاعتي أن أرسم صورة لفلسطين كيف يمكن أن تكون لو لم تكن نكبة..!! ولو لم يكن هنا كيان واحتلال..؟! ولكني أقف عاجزة أمام هذه الصورة.. إذ لا تستطيع مخيلتي رسمها رغم كل هذا العشق..
على سفوح ومنحدرات الجليل الغربي لفلسطين، لا تزال الغابسية تشهد بأطلالها وجوداً واسماً عربياً فلسطينياً.. أول ما وطأت عيوني على المشهد ومدخل القرية المهجرة تلك المقبرة الكبيرة على الأطراف والتي نبشت قبورها أكثر من مرة على يد المتطرفين اليهود، لعل الكلام لا يستطيع وصف الإحساس حين تمر على مقبرة لأبناء جلدتك من دُفن فيها نبشت قبره وعظامه، ومن كان حياً هُجر من أرض له إلى الشتات على وعد عودة..
توجهنا للأمام فكان مسجد ينتصب أمامنا بقبته المرفوعة نحو السماء، محاط بجدار من ألواح الزنك كالأسير المحاصر من كل الجهات، يمنع أن يدخله أحداً، تخفق نسمات الربيع بأبوابه وشبابيكه كأنه ينادي الحرية أن تأتي إليه من فوقه..
كان جامع الغابسية بمثابة مجمع لأهل البلدة والبلدات المجاورة لوسعه وكبره وخصوصاً أن بجانبه كان مبنى الديوان فيه يجتمع الرجال ويناقشون أمور البلاد.. كانت الغابسية قبيل النكبة يسكنها ما يقارب الـ 1,438 نسمة في 382 بيت. بدأت المضايقات في الغابسية من قبل المنظمات الصهيونية بشكل مباشر في أوائل عام 1947 رغم قلتها، وكان ذلك بزرع الألغام في الطرق المؤدية لها والتي توصل بينها وبين مدينة عكا والقرى المجاورة، إضافة إلى الاغتيالات والمضايقات المستمرة من قبلهم لأهلها مما أدى إلى مقتل واستشهاد ثلاثة أو أربعة أشخاص.
في عام 48 بدأت الأمور تسوء في البلاد وبدأت المضايقات وأعمال الإرهاب والقتل تزداد مما جعل كبار البلدة أن يبحثوا عن حلٍ يحمي الأهالي من أي خطر محتم بعد أن بدأت الأخبار تتوافد باحتلال اليهود البلاد وإرهابهم وطرق القتل والدمار التي يستعملونها مع الفلسطينيين، وكان من هؤلاء الكبار الشيخ رباح حمادي عوض أحد قادة ثورة الـ 36، في الوقت الذي شعر أن موازين القوى الفلسطينية بدأت تنهار أمام المؤامرة على فلسطين وتجاه القوة والجيش الصهيوني المنظم المتجه نحو كل البلدات، ومع توالي الأخبار في الإذاعات عن هول الإرهاب الذي ينتهجه الجيش نحو الشعب الفلسطيني وصور المجازر التي كانت تصلهم من هذا وذاك، جاءت مبادرة من قبل اليهود للشيخرباح حمادي بضمان الأمان للغابسية وأهلها والوصول إلى اتفاق بألا يُعتدى عليها، وعلى هذا المبدأ قرر الشيخ عقده والموافقة عليه وتوقيعه.
لا أعلم طبيعة الحال التي كان بها الناس آنذاك، ولا أستطيع أن أجد رأياً مناسباً لما حصل أتراه عقلاني أم خيانة أم مفر.. من الصعب عليَّ أن أضع رأياً قاطعاً، ربما لأنني لم أعش تلك الفترة ولا أعرف ما معنى أن يسمع الواحد أن مجزرة في القرية المجاورة راح ضحيتها العشرات.. وأن انفجاراً آخر في أحد البيوت والأهل داخله باتوا فحماً.. ولا أن عذراء اغتصبت من قبل مجموعة من الجنود.. كثيرة هي الصور التي سمعت عنها من الكبار ولم أعشها، بل عاشها أهل الغابسية كما سواها من القرى، وأحاول قدر استطاعتي أن أعرف معنى هذا الحل الذي اختاره الشيخ رباح آنذاك.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن البشر عاطفيين والخوف على الأطفال من واقعنا.. فربما كان ذاك هو الحل الوحيد مع قلة الحيلة وعدم توفر السلاح في البلدة.
في يوم الجمعة الساعة الخامسة من فجر الحادي والعشرون من أيار سمع ضجيجاً وصوت ضرب من الجهة الشمالية وكان اليهود قد باشر بدخول القرية بعد أن فجروا ثلاثة بيوت في المقدمة، حتى تذكر الأهالي بوجود الاتفاقية فقرروا رفع الراية البيضاء فوق المسجد، فطلب كبار البلدة من أحد الشبان رفعها، وقيل لي أن اسمه داوود خليل زينة وما أن وقف الشاب رافعاً رايته من فوق القبة حتى صوبوا عليه اليهود بنادقهم وقتلوه وكان هو أول شهيد في الغابسية. وواصل اليهود الدخول لحارات البلدة وإخراج الأهل من بيوتهم ووقع على أرض الغابسية أربعة عشر شهيداً.. ومن أكثر الصور بشاعة في القتل وجود امرأة جميلة متزوجة حديثاً وحدها في البيت مع طفلها ابن السنة والنصف حين دخل عليها الجنود بغتة، ومن شدة خوفها على نفسها وشرفها ماتت قبل أن يمسها أحدهم.. أما ابنها فقد أخذوه أهل الغابسية معهم إلى لبنان وسكن هناك والتحق فيما بعد لقافلة المقاومة وقت اجتياح لبنان عام 1982 واستشهد بها.
وامرأة أخرى عجوز كانت تحمل حفيدها الرضيع دخلوا عليها أخذوا الطفل منها وأطلقوا عليها الرصاص بدمٍ بارد، ويقال أن الطفل ما زال حياً مع إحدى العائلات اليهودية. كانت هذه العملية العسكرية التي دخلت منطقة الغابسية تدعى "بن عامي" حيث طهرت البلدة عرقياً بعد أن طُرد أهلها مجبرين من قبل كتيبة كرملي، ولم يكن أي مدافعين عليها سوى بضع شبان ثوار بستة بنادق أمام جيش منظم ذو المدفعيات والدبابات.
بعد أسبوعين قيل لأهل الغابسية أن يعودوا لديارهم إلا أن غالبية السكان كانوا مع قافلة المهجرين إلى لبنان وحين أرادوا العودة أغلقوا المنظمات الصهيونية الحدود عليهم ومنعوا عودتهم. أما من بقي في البلاد عاد إليها فكانت دماراً فأعادوا بناءها وترميمها والسكن بها مرة أخرى.
وفي السادس العشرون من كانون الأول من عام 1950 دخلت القوات الصهيونية مرة أخرى للبلدة بالمصفحات والجرافات وطردوا ما بقي من أهلها وجرفوا كل مساكنها ولم يتركوا منها شيئاً إلا أطلال هذا الجامع وبقايا آثار لبعض بيوت ومقبرة صمدت لتبقى الشاهدة على الجريمة.
لم يتوقف أهل الغابسية عند هذا فحاولوا مراراً وتكراراً العودة إليها وقد استطاعوا في الثلاثين من تشرين أول عام 1951 الحصول على وثيقة موقعة من المحكمة الدولية بأن لهم الحق بالعودة والسكن بها، وبعد ستة أيام من القرار طوق أفراد الشرطة والجنود الأهالي العائدين مرة أخرى ومنعوهم الدخول بقرار من الحكومة أن منطقة الغابسية منطقة أمنية ويمنع السكن بها.
وبقي أهل الغابسية يحاولون حتى هذا اليوم العودة والمحافظة على ما تبقى بها وكان آخرها عام 1998 حيث قرروا تنظيف الجامع والصلاة به كل جمعة ونفذوا قرارهم إلا أن الحكومة داهمتهم أيضاً وسجنت بعضهم بتهمة الدخول إلى أماكن يمنع الدخول والوصول إليها.
سمعت قصة الغابسية من أحد سكانها الذي كان وقت النكبة طفلاً لا يفهم ما حصل معه آنذاك، إلا أنه وبعد أن هُجر منها كان له حديثاً طويلاً مع والده وجده فلم ينسَ جرحها، ونقل الحكاية لجيل بعد جيل..
نظرت لهذا الجامع المحاصر والسجين وقلبي ملوع من المشهد وبرأسي آلاف المشاهد بذاكرة من حدثتهم من أهل الغابسية، تجولت في المكان وحوله حتى وجدت لوحاً ساقطاً، استطعت خلاله أن أزحف لداخل مبنى المسجد ورؤية ما بقي منه عن قرب، وإذ ببناء حجري ذو قبة بدأ يتساقط غلافها الإسمنتي، وأبواب ونوافذ وقناطر مزخرفة ذات معالم إسلامية تشهد على تزييف التاريخ، مسجد واسع كبير لكنه مهجوراً تغطي سطحه الأعشاب البرية.
القهر يزداد وبحة الألم في النفس وأتساءل إن كنت أنا لست ساكنة البلدة وأشعر بعمق هذا الألم كيف تراه يشعر ذاك المهجر حين يرى بلدته التي عاش بها طفولته وترعرع بين أحضانها بهذه الصورة الحزينة الحية. صليت بين رحابه وفي أحضانه ركعتين وعدت للحافلة وفي وعقلي ألف دوامة وفي عيني دمعة حقد إضافية لهذا المحتل، وقول أن العودة حق لأصحاب البيت وأن الله أكبر من كل ظالم.
القلــــــــــــ المجروح ـــــــب